من باريس إلى باليرمو: صراعٌ فرنسيٌ إيطاليٌ في ليبيا

ينطلق يوم الإثنين في مدينة باليرمو مؤتمر حول ليبيا، بدعوة من الحكومة الإيطالية، وبحضور متوقع لغالبية القوى الليبية النافذة. إلا أنّ فكرة هذا المؤتمر كانت تخفي منذ طرحها، صراعاً بين روما وباريس حول إدارة الملف الليبي

 

كان مرجحاً أن يشهد هذا العام عملية انتخابية شاملة في ليبيا، خاصةً بعدما توالت على مدار العام الماضي الدعوات من قبل الفرقاء السياسيين لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. أول دعوة رسمية لإجراء الانتخابات يمكن التأريخ لها بـ”إعلان القاهرة” الصادر في منتصف شباط/فبراير من العام الماضي، حين اتفق رئيس “حكومة الوفاق الوطني” فائز السراج، ورئيس مجلس النواب (الذي يتخذ من مدينة طبرق في الشرق مقراً له) عقيلة صالح، وقائد “الجيش الليبي” التابع لمجلس النواب خليفة حفتر، على الذهاب إلى انتخابات خلال عام. لكن الإعلان الذي تمّ برعاية مصرية، أخفق في الوصول إلى الانتخابات التي حُدِّد لها شباط/فبراير الماضي كموعد أقصى، علاوة على فشل دعوتين من صالح والسراج (في آذار/مارس وتموز/يوليو من العام الماضي) لإجراء انتخابات بداية هذا العام. وأخيراً، فشلت أيضاً خطة المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، التي كانت تقضي بإجراء انتخابات بعد سنة من إعلانها (في أيلول/سبتمبر 2017).

 

في المرحلة السابقة، أخذت فرنسا خطوة متقدمة في إدارة الملف الليبي على حساب إيطاليا، عندما استطاع الرئيس إيمانويل ماكرون، في 29 أيار/مايو الماضي، تحقيق “إعلان باريس”. هذا الإعلان الذي يُعرف أيضاً بـ”مؤتمر باريس 2″ (إذ سبق للسراج وحفتر أن اجتمعا في تموز/يوليو من العام الماضي بضواحي باريس في ما عُرف بـ”إعلان لاسيل سانت كلو”)، وقد ضمّ القادة الثلاثة الذين اجتمعوا في القاهرة، بالإضافة إلى رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، المنتمي لجماعة الأخوان المسلمين، جرى خلاله الاتفاق شفاهياً (من دون توقيع لعدم اعترافهم ببعضهم) على 8 بنود، أبرزها: وضع أسس دستورية للانتخابات واعتماد القوانين الانتخابية بحلول 16 أيلول/سبتمبر الماضي؛ إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 كانون الأول/ديسمبر المقبل؛ الالتزام بالقبول بنتائج الانتخابات (كي لا يتكرر ما حدث في الإنتخابات البرلمانية عام 2014)، والتهديد بمحاسبة كل من يحاول خرق العملية الانتخابية أو عرقلتها. تنصّ بنود الاتفاق أيضاً على ضرورة إنهاء حالة الانقسام المؤسسي والسياسي، من خلال إلغاء الحكومة والمؤسسات الموازية بشكل تدريجي، والعمل على توحيد جميع المؤسسات وعلى رأسها مصرف ليبيا المركزي، بالإضافة إلى بناء المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل احترافي وقابل للمحاسبة، وتوحيدها.

غير أنّ المبادرة الفرنسية أثارت حفيظة إيطاليا، وكان ذلك واضحاً في التصريحات الدبلوماسية الصادرة عن روما التي قالت إنّها لم تعلم بالمؤتمر إلا عشية انعقاده. كما أنّ صحفاً إيطالية اعتبرت الأمر في حينه بمثابة “استغلال” لانشغال إيطاليا بشؤونها الداخلية في ظلّ “الفراغ السياسي” (نظراً للخلافات التي كانت بشأن تشكيل الحكومة برئاسة جوزيبي كونتي). وثمة من قال إنّ الهدف هو “السيطرة على ثروات النفط والغاز في المستعمرة الإيطالية السابقة”، فيما وصل آخرون إلى وصف الدور الفرنسي في ليبيا بأنه “يهدد الأمن القومي الإيطالي” نفسه.

 

إيطاليا ترفض الإنتخابات

حلّت إيطاليا خلافاتها الداخلية بسرعة، إذ رضخ كونتي لمطلب الرئيس سيرجيو ماتاريلا (بإبعاد باولو سافونا عن حقيبة الاقتصاد)، وأعلن، بعد يومين فقط من “إعلان باريس”، تشكيل حكومته التي حاولت بدورها العودة بسرعة إلى الملف الليبي من خلال زيارات متفرقة لثلاثة وزراء منها (الداخلية والخارجية والدفاع) إلى طرابلس، في ظرف أقل من شهر، ما بين شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو.

الأمين العام لـ”رابطة الشمال”، ذو التوجه اليميني المتشدد، ماتيو سالفيني، كان أول من زار ليبيا من الحكومة الإيطالية الجديدة، حيث يشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. وبمجرد عودته من زيارته القصيرة (في 25 حزيران/يونيو الماضي)، فتح النار على فرنسا، واصفاً ماكرون بأنه “شرير” (وذلك في معرض دفاعه عن رئيس الوزراء المجري ذو التوجه اليميني المتشدد، فيكتور أوربان، والذي كان ماكرون قد انتقده). كما أبدى سالفيني استغرابه إزاء تحمّل إيطاليا وليبيا وحدهما “دفع الثمن الاقتصادي والاجتماعي للهجرة” غير الشرعية، والتي تنطلق بالأساس من شواطىء ليبيا. ويُعتبر سالفيني (الذي يُوصف بأنه “رئيس الوزراء الفعلي” لإيطاليا) صاحب التصريحات الناريّة ضد فرنسا، وقد أتهمها في وقت لاحق بـ”تقديم مصالحها على ظهور الليبيين” (كما نقلت وكالة الصحافة الإيطالية ـــ آكي).

سالفيني خلال زيارته لطرابلس / نقلاً عن أ ف ب
سالفيني خلال زيارته لطرابلس / نقلاً عن أ ف ب

بعد سالفيني، جاءت زيارة وزير الخارجية إنزو موافيرو ميلانيزي، إلى ليبيا (في 7 تموز/يوليو الماضي)، أكثر دبلوماسية، إذ شهدت تفعيل “معاهدة الصداقة” الموقعة بين البلدين في آب/أغسطس 2008، والتي كانت قد ألغتها روما في آذار/مارس 2011، إبان الانتفاضة على نظام معمر القذافي. وخلال المؤتمر الصحافي مع نظيره الليبي محمد سيالة، أكد الأخير على “تطابق وجهات نظر” حكومته (“حكومة الوفاق الوطني”) مع إيطاليا، “في كثير من الأحيان”.

 

بدورها، كشفت زيارة وزيرة الدفاع إليزابيتا ترينتا، إلى طرابلس (في 24 تموز/يوليو الماضي)، سبب رفض روما إجراء انتخابات نهاية العام. فأعلنت أنّ “التعجيل” بالعملية الانتخابية من دون “مصالحة شاملة” بين كافة الأطراف الليبية سيضر، ليس فقط بليبيا، بل بإيطاليا نفسها. بأسلوب أكثر وضوحاً، فإنّ “مقاربة إيطاليا لحلّ الأزمة هي عكس المقاربة الفرنسية، فالاستقرار هو السبيل الوحيد الذي يجب المضي فيه، ثم تأتي الانتخابات لاحقاً. وفي حين بدأ المؤتمر الفرنسي بنتيجة منشودة وانتهى بتوصيات خاصة وجدول زمني، فإنّ المقاربة الإيطالية لا تملك أي هدف محدد لمؤتمر باليرمو، ولا هي تنوي إلزام الزعماء بأي تواريخ أَو شروط”، يقول تقرير صدر أمس عن مركز “أتلنتك كاونسل”.

 

وكانت وزيرة الدفاع الإيطالية قد أثارت جدلاً كبيراً، عندما نقلت وسائل إعلام إيطالية (جريدة “إيل جورنالي” والنسخة الإيطالية من الـ”هافينغتون بوست”) في نهاية حزيران/يونيو، قولها إنّ “القيادة لنا في ليبيا”، وذلك أثناء مكالمة هاتفية مع نظيرتها الفرنسية فلورانس بارلي. غير أنّ السفارة الإيطالية في ليبيا، نفت الأمر، وأوضحت أن ترينتا قالت إنّ “ليبيا أولوية لإيطاليا وليست مُلكية”، وإنّ إيطاليا “أكثر بلد اهتماماً بتحقيق الاستقرار في ليبيا”، كما أشارت السفارة في الوقت نفسه إلى أنّ هناك من يعملون “ليل نهار” من أجل “تشوية العلاقة بين إيطاليا وليبيا”.

 

جدير بالذكر، أنّ السفارة الإيطالية نفسها أثارت حفيظة قسم من الليبيين، عندما صرح السفير جوزيبي بيروني، في مقابلة تلفزيونية، بأنّ بلاده “لا تريد إجراء انتخابات بأي ثمن”، لأنها ستسبب “المزيد من عدم الاستقرار والفوضى والنزاعات”. كما قال إنّ هناك “أطرافاً تريد الاسراع في إجراء الانتخابات للاستيلاء على السلطة”، في إشارة واضحة إلى خليفة حفتر. وأدت هذه التصريحات إلى خروج مظاهرات في عدة مدن ليبية، تستنكر “التدخل الإيطالي”، وتطالب بطرد السفير. وعلى أثر ذلك، أوقفت وزارة الشؤون الخارجية الإيطالية بيروني عن العمل، وأبقته في إيطاليا، إذ اعتبرت أنّ تصريحاته جاءت “بشكل منفرد”، كما أشارت صحيفة “كوريري ديلا سيرا” إلى أنّ هذه التصريحات أغضبت خليفة حفتر الذي وصفها بأنّها “استفزاز واضح للشعب الليبي وتدخل سافر”، ورأى أنّ بيروني “بات غير مرغوب فيه من قبل غالبية الليبيين”.

 

لعلّ اللافت ضمن هذا المشهد أنهّ برغم كون غسان سلامة، يُعدُّ محسوباً على فرنسا التي كانت قد تبنت عملية تسلمه منصب المبعوث الأممي إلى ليبيا، إلا أنّه دافع عن الدور الإيطالي، عازياً إياه إلى “أسباب جغرافية وتاريخية واضحة”، في إشارة إلى حقبة “الاستعمار الإيطالي”.

 

أسس الخلاف الفرنسي الإيطالي

بعد أقل من عشرة أيام من منح حكومته الثقة، توجّه جوزيبي كونتي، إلى الإليزيه، في ثاني زيارة خارجية رسمية له (بعد زيارته لكندا لحضور قمة مجموعة السبع). كانت الأجواء متوترة على خلفية الاتهامات المتبادلة بين البلدين بخصوص “سفينة أكواريوس للاجئين”. وبينما دعا من هناك، برفقة ماكرون، إلى إقامة مراكز أوروبية في “دول انطلاق المهاجرين”، فإنّ هذه الزيارة لم تعنِ أي توافق في المقاربتين المختلفتين للبلدين بما يتعلق بـ”الأزمة الليبية”.

 

على الصعيد الرمزي، فالخلاف هو بين ماكرون الذي نصّب نفسه “الخصم الأكبر للأحزاب اليمينية المتطرفة والمناوئة للهجرة” في أوروبا، وبين كونتي الذي يقود أول حكومة “يمينية شعبويّة” ومناهضة للمؤسسات في غرب أوروبا، والتي رأت فيها حكومات اليمين المتطرف في شرق أوروبا، نصراً كبيراً لوقف “تدفق المهاجرين” إلى القارة.

 

أما بما يخص ليبيا، فيتمثل الصراع، شكلياً، في دعم إيطاليا لــ”حكومة الوفاق الوطني” في طرابلس، بهدف “مكافحة الهجرة غير الشرعية” التي تنطلق بشكل أساسي من سواحل الغرب الليبي، بينما تدعم فرنسا خليفة حفتر لـ”محاربة الإرهاب” في شرق البلاد. ولا يُخفي ذلك أنّ بعض الصحافيين يُفسّرون هذا الصراع على أساس تنافس بين “إيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية، باعتبار أنّ الأولى “تدافع عن مصالحها النفطية”، فيما تسعى الثانية لتوقيع عقود أكبر بعدما فشلت “صفقة حوض نالوت” في 2010. وفي حديث إلى “المراسل”، يشرح الباجث في الشأن الليبي جلال حرشاوي، أنّ “إيطاليا تستورد من ليبيا حوالي 350 ألف برميل من النفط، فيما تستورد فرنسا أقل من ثلث ذلك”، ويضيف: “بالتالي، تريد إيطاليا التهدئة في ليبيا، وتريد الوضع الراهن في طرابلس، و(هذا ما) تتفق فيه أميركا وبريطانيا مع روما”. برغم ذلك، فإنّ حرشاوي يُقلّل من شأن المنافسة بين “إيني” و”توتال”، ويرى أنّ “الصحافيين يبالغون في هذه القضية… فالقضية المركزية هي الهجرة وليس النفط”. ويقول: “عندما يعبر المهاجرون ليبيا، يصلون إلى صقلية وليس إلى فرنسا”، وهذا رأي قد يوضّح إعلان كونتي الصادر قبل ساعات فقط، حول أنّ مؤتمر باليرمو يسعى لتحقيق الاستقرار في ليبيا وأمن حوض البحر المتوسط برمته.

نقلاً عن وكالة أ ب أ
نقلاً عن وكالة أ ب أ

 

بيد أنّ خلفية الخلاف بين البلدين تعود إلى الانتفاضة الليبية قبل سبع سنوات، فإيطاليا تُحمّل المسؤولية إلى فرنسا في “الأزمة الراهنة” التي تعيشها ليبيا، ذلك أنّ باريس تدخلت ضدّ نظام القذافي (الذي كانت إيطاليا قد وثّقت علاقتها به وأصبحت شريكه التجاري الأول)، “مُقدِّمة مصالحها على مصالح الليبيين وأوروبا نفسها”، وفق تعبير وزيرة الدفاع الإيطالية. هذا الخلاف برز بشكل علني قبل عامين، عندما اصطدمت إيطاليا في سياق دعمها القوي لــ”حكومة الوفاق الوطني” التي تحظى باعتراف دولي، بحفتر المدعوم فرنسياً، والذي يرفض الانصياع “تحت السلطة المدنية” في حكومة السراج، علاوة على تهديدات حفتر المستمرة باقتحام العاصمة و”تحريرها من الميليشيات” التي تحكمها.

 

وبينما قدمت إيطاليا من البداية الدعم بشكل علني لــ”حكومة الوفاق الوطني”، ظلّ الدعم الفرنسي سريّاً إلى حفتر، ولمدة طويلة، قبل أن تعلن وزارة الدفاع الفرنسية مقتل ثلاثة جنود فرنسيين بالقرب من بنغازي في تموز/يوليو 2016، لتؤكد بذلك تسريبات محلية وفرنسية سابقة، أبرزها تقرير “لوموند” الفرنسية الشهير بعنوان “الحرب السريّة لفرنسا في ليبيا” في شباط/فبراير من نفس العام، والذي تحدث عن “رصد وجود فرنسي في شرق ليبيا”.

 

بخصوص الدور الفرنسي في ليبيا، يشرح المدوّن الليبي فرج فركاش، أنّ باريس “ليس لها مطامع في الشرق الليبي، فهي كانت تعوّل على حفتر فقط للسيطرة على الجنوب ومساعدتها في حماية مصالحها، وهي كانت تعتقد بأنّ حفتر لديه الإمكانات ولم تدرك أنّ الوضع (في الجنوب) معقد أكثر مما تتوقع، وأنّ حفتر ليس كما يُسوّق الإعلام”. ويشرح فركاش في حديث إلى “المراسل”، أهمية الجنوب الليبي بالنسبة لفرنسا، بقوله إنّ واقعه الحالي “يُشكّل تهديداً مباشراً للتشاد والنيجر، الحليفين التاريخيين والاستراتيجيين لفرنسا، وبالتالي يُشكّل تهديداً مباشراً لها ولمصالحها الاقتصادية ولنفوذها في أفريقيا”.

 

“ضوء أخضر” أميركي لإيطاليا

لم يمر شهر ونصف الشهر على “إعلان باريس”، حتى أعلن كونتي عزم بلاده تنظيم مؤتمر دولي حول ليبيا في “الخريف المقبل”، وصار يبذل جهوده لكي “يخطف” الملف الليبي من فرنسا تحت شعار أنّ “استقرار ليبيا يمثل أولوية قصوى بالنسبة لإيطاليا”. وكان كونتي قد عبّر صراحة عن معارضته لمخرجات “إعلان باريس”، مبيناً أنّ هدف إيطاليا ليس “تنظيم انتخابات في كانون الأول/ديسمبر كما يرغب ماكرون”، بل “استقرار” ليبيا. كما أنّه استهجن إنفراد الرئيس الفرنسي بإدارة الملف الليبي وكأنّ “ليبيا تخصّه” وحده، مؤكداً أنّ ليبيا “دولة مستقلة” ولها علاقة “مميزة تاريخياً” مع إيطاليا أيضاً، وأنهم لن يتخلوا عنها أبداً.

 

قد يكون كونتي استند إلى دعم أميركي. ففي وقت مبكر، حظي الرجل بإعجاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وصفه بـ”العظيم” في أول لقاء لهما على هامش قمة مجموعة السبع (كان كونتي الوحيد من بين المجتمعين الذي ساند اقتراح ترامب بالعودة إلى صيغة مجموعة الثماني من خلال إعادة روسيا، فيما رفضها الآخرون بشكل قاطع). وعقب اللقاء بترامب، نشر كونتي صورة على صفحته في “فايسبوك”، وهو يصافح ترامب، وكتب عليها: “تحالف تاريخي… صداقة جديدة”. هذا المشهد وصفته باحثة إيطالية في معرض حديثها إلى صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، قائلةً إنّ هذه الحكومة تحاول أن تكون “أقل أوروبية وأكثر أطلسية”، ما يعني: “أكثر موالاة للولايات المتحدة وأقل مناصرة لأوروبا”.

 

تشكّلت صداقة قوية بين “الرجلين الشعبوييّن”، إذ رأى ترامب في كونتي شبيهاً له، لكونه “آتٍ من خارج الطبقة السياسية” مثله، و”متشدد جداً ازاء الهجرة”، مثله أيضاً، الأمر الذي أثنى عليه بقوله إنّ “الرابحين اليوم هم الذين يتشددون بشأن الهجرة”. وخلال زيارة رئيس الوزراء الإيطالي للبيت الأبيض أواخر تموز/يوليو الماضي، نال “الضوء الأخضر” من الرئيس الأميركي، لإدارة الملف الليبي، إذ صرّح للصحافيين بأنّ ترامب يعتبر أنّ “إيطاليا هي المرجعية في أوروبا بالنسبة لليبيا”. لكن في هذا الصدد، يرى فرج فركاش، أنّ هذا “التفويض الأميركي لإيطاليا” قد “يضرّ بالملف الليبي أكثر مما يفيده”، مضيفاً أنّه على واشنطن “ألا تستخدم المفاضلة بين الدولتين لإحراز أي تقدم، بل عليها دعم البعثة الأممية بكل ثقلها السياسي، وربما العسكري لو تطلّب الأمر”.

نقلاً عن وكالة أ ف ب
نقلاً عن وكالة أ ف ب

 

على صعيد متصل، رغم تعيين الأمم المتحدة للقائمة سابقاً بأعمال السفارة الأميركية في ليبيا ستيفاني ويليامز، في منصب نائبة لرئيس بعثة الأمم المتحدة للشؤون السياسية، فإنّ متابعين يرون أنّ الملف الليبي “أهُمل” على المستوى السياسي عند الإدارة الأميركية فور وصول ترامب للسلطة (علماً أنّه كان قبل وصوله إلى السلطة يغرّد كثيراً عن ليبيا، ولكن بهدف النيل من خصومه الديموقراطيبن). وهو لم يعين مبعوثاً خاصاً له خلفاً للمبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا جوناثان وينر (في عهد باراك أوباما). وكان موقع “إينسايد أربيا” قد أوضح في تقرير له نشر مؤخراً أنّ إدارة ترامب “مترددة بشأن الضلوع بدور أكبر من مكافحة الإرهاب” في ليبيا، وذلك برغم أن التقرير أشار إلى رغبة صناع القرار في الولايات المتحدة في “استئناف مشاركة واشنطن في الملف الليبي… لأنّ التنافس الفرنسي الإيطالي تسبب في تعقيد الجهود الدولية لتحقيق الاستقرار في البلاد”.

 

ما تقدّم لا ينفي أنّ حقبة ترامب تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في تنفيذ ضربات جوية أميركية بطيارات من دون طيار ضدّ “مواقع إرهابية” في ليبيا. فقد بلغت الضربات المُعلنة ما يزيد عن 11 ضربة جوية، نُفذت أغلبها “بالتنسيق مع حكومة الوفاق الوطني” عن طريق القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). أيضاً، وعلى سبيل الإشارة إلى التدخلات الأميركية وعدم الابتعاد عن ليبيا، فقد ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تموز/يوليو الماضي، أنّ “رسالة شديدة اللهجة” من ترامب، كانت سبباً في إجبار حفتر على العدول عن قراره بنقل تبعية الموانئ النفطية إلى المؤسسة الموازية )التي تتخذ من مدينة البيضاء في الشرق مقراً لها)، وتسليمها إلى المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، التي تحظى باعتراف دولي.

 

في ظل هذه المعطيات، وأياً كانت طبيعة العلاقة الحالية مع واشنطن، فإنّ إيطاليا تعوّل بشكل فعلي على دول الجوار. فبينما تبدو تونس وتشاد أقرب إلى فرنسا، تظهر إيطاليا كأنّها نجحت في حشد مصر (التي كانت دائماً قريبة من وجهة النظر الفرنسية) في صفها، وهذا ما سيكون رهن الاختبار، بالإضافة إلى الجزائر (التي تعيش أزمة مع فرنسا)، وهي تعوّل من خلالهما على إنجاح مؤتمرها. (في بداية الأسبوع، زار كونتي الجزائر، وكان لافتاً توجهه إلى مقام الشهيد، حيث وضع إكليلاً على ضريح شهداء الثورة التحريرية من الاستعمار الفرنسي).

 

بناءً على مجمل هذه الخلفية، يشرح جلال حرشاوي أنّ “فكرة فرنسا عن إجراء انتخابات مبكرة فشلت، ونتيجة لذلك قد تسود وجهة النظر الإيطالية من أجل الاحتواء والمحافظة على الوضع الراهن”. ويذكّر حرشاوي في سياق حديثه بأنّ “فرنسا أقرب إلى الإمارات، وهي تريد رؤية فوز حفتر في غرب ليبيا، (لكن) إذا تمت زعزعة استقرار غرب ليبيا من خلال انتخابات مبكرة أو معركة، فلن تتأثر باريس، وهذا هو الفرق الرئيسي بينها وبين روما”. وربما أنّه من بين الملفات التي تبني روما عليها موقفها أيضاً، تقاطعها مع روسيا، إذ إنّ الأخيرة التي “تساعد إيطاليا في غرب ليبيا، وفي نفس الوقت، تساعد حفتر في شرق ليبيا”، ستجعل حفتر “يذهب إلى (مؤتمر) باليرمو، ومع الوقت سوف تلتقي كل من إيطاليا وحفتر شيئاً فشيئاً”، يشير حرشاوي. وجدير بالذكر أنّ حفتر زار موسكو في الأيام القليلة الماضية.

 

مؤتمر باليرمو

كان الكلام في البداية عن عقد المؤتمر في العاصمة الإيطالية روما، ثم ظهرت إمكانية عقده في إحدى مدن جزيرة صقلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ليستقر الأمر مطلع الشهر الماضي على إقامة المؤتمر في (عاصمة إقليم صقلية) باليرمو، وهي “المدينة الإيطالية المهمة والقريبة من السيناريو الليبي”، وفق وزير الخارجية الإيطالي. لكنّ هذا الأمر فتح باب التفسيرات حول الغاية والهدف من إقامة المؤتمر في هذا المكان. وفي هذا الصدد، يعيد مصدر دبلوماسي السبب إلى “صلة قرابة” تربط بين عميد بلدية باليرمو ليولوكا اورلاندو، ووزير خارجية واشنطن مايك بومبيو (ذو الأصول الإيطالية). ويضيف المصدر في حديث إلى “المراسل”: “لا يوجد تفسير سياسي آخر لإقامة المؤتمر في عاصمة المافيا الإيطالية”.

 

بدوره، قال سفير ليبيا السابق في إيطاليا عبدالرحمن شلقم، إنّ لهذا الاختيار “مدلولاً خاصاً”، وأوضح في مقالة بعنوان “ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي”، نُشِر مؤخراً في جريدة “الشرق الأوسط” السعودية، أنّ باليرمو كانت “حلقة الرباط العربي في عهد الأغالبة”، و”قدمت الكثير للثقافة العربية”، و”بها من الشواهد الأثرية العربية الكثير”.

 

في غضون ذلك، تراهن إيطاليا بقوة على نجاح مؤتمرها الذي أخذت الوقت الكافي للإعداد له، ودعت له كافة الأطراف الدولية المؤثرة، بالإضافة إلى عدم تهميش الأطراف الداخلية الفاعلة على الأرض من “الميليشيات” والقبائل، على أن ينقسم المؤتمر على يومين، يوم أول للأطراف الداخلية ومحاولة التوسط بينها، ويوم ثاني لـ”اللاعبين الدوليين” المؤثرين في ليبيا. ورغم التأكيد على أهمية “المشاركة الواسعة” لإنجاح المؤتمر، أصدرت عشر كيانات سياسية ليبية على مختلف مشاربها، الأربعاء الماضي، بياناً موحداً تستنكر فيه “الإقصاء المتعمد” لها من حضور مؤتمر باليرمو.

عن موقع بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا
عن موقع بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا

 

أيضاً، تعوّل إيطاليا لإنجاح المؤتمر على الإستفادة من الأخطاء التي وقع فيها “إعلان باريس”، وتحاول تداركها خصوصاً في ما يتعلق بـ”قضية الميليشيات”، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الميدانية وجملة من الإجراءات الأمنية والاقتصادية التي جرت مؤخراً، بالإضافة إلى المرحلة المتقدمة التي وصلت إليها “اجتماعات القاهرة” بشأن توحيد المؤسسة العسكرية.

 

واتساقاً مع مبدأ الإيطاليين في رفض الانتخابات بحجة عدم فرض موعد معيّن على الليبيين، وأنّ الليبيين هم من يحددون الموعد المناسب لذلك، أكد وزير الخارجية الإيطالي منذ البداية أنّ الهدف من المؤتمر هو “تسهيل الحوار وتحديد مراحل عملية الاستقرار للوصول إلى اللحظة الحاسمة للانتخابات”، وأنّ المؤتمر “لن يحدد تواريخ أو واجبات، بل سيكون عبارة عن اجتماع للمعنيين لكي يتفقوا على جدول أعمال مشترك وتحديد المراحل”. إلا أنّ غسان سلامة، عاد مجدداً يوم الخميس، ليخرج بتصريح يبدو مفاجئاً، إذ يدعو فيه إلى ضرورة إجراء الانتخابات في “بداية الربيع المقبل”، مستبقاً بذلك مخرجات المؤتمر “الذي ينظم بالتعاون الوثيق مع بعثة الأمم المتحدة في ليبيا”، وفق الحكومة الإيطالية.

 

هكذا، “لا تبدو عملية باليرمو ذاهبة إلى طريق التسوية، وستظل كما غيرها محطة دولية في عملية إدارة الأزمة الليبية، وسيكون ذلك مآل كل عملية ترعاها القوى الخارجية ما لم ينتبه الليبيون إلى أنهم أصحاب الأزمة”، يقول الباحث المصري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كامل عبدالله. ويبدو أن التفاؤل الإيطالي آيل للسقوط، بعد تأكيد غياب فلاديمير بوتين وايمانويل ماكرون وانجيلا ميركل عن المؤتمر، بالإضافة إلى أحاديث صحافية تشير إلى تصدعات داخل الحكومة الإيطالية المكوّنة من ائتلاف بين “رابطة الشمال” و”حركة الخمس نجوم”، ومظاهرات تشهدها مدينة باليرمو تصف المؤتمر بــ”قمة السلام الزائف”.

  • الصورة الرئيسة: عن أ ف ب